خرجنا من المسجد بعد صلاة المغرب نتمشى ، فقال لي صديقي المهندس:

- في بداية سورة الرحمن " الرحمن ، علّم القرآن ، خلق الإنسان ، علّمه البيان " فكيف يعلم الله الرحمن القرآن للإنسان قبل خلقه !

- فقلت : أشرح الأمر كله ؟ أم من الشرح أختصر !

- فقال : كله ! حتى صلاة العشاء .. بعد ساعة وربع !

فكان حديثا هذا مداره:

بسم الله الرحمن الرحيم ..

القرآن الكريم الذي بين يدينا الآن على شكل كتاب صغير .. هو دستور القوانين أو السنن الإلهية منذ أن خلق الله السموات والأرض وما بينهما بالحق .

والقوانين الإلهية نوعان ولكنهما متكاملان :

* نوع القوانين المادية ، كقانون الجاذبية بين الأرض وما عليها ، وبين الأرض والشمس والقمر إلخ

* نوع القوانين النفسية و الاجتماعية كقانون " بالوالدين إحسانا" 23/ الإسراء

- كيف تتكامل القوانين المادية مع الاجتماعية؟

- إن أكل الطيبات المادية يجعلك سعيدا منشرحا فتحسن علاقاتك بأسرتك .. كما أن أكل الخبائث يدمر علاقتك الاجتماعية .. والمثال الصارخ على ذلك هو الخمر أم الخبائث ..

إذن ، عندما خلق الله السموات والأرض أودع فيهما القوانين أو السنن الإلهية التي ضرب لها الأمثال في القرآن ، أي علّم الله سننه المادية المذكورة في القرآن للسموات والأرض . وهذا يفسر إشارات القرآن للقوانين المادية كحدوث الليل للسبات والنهار للمعاش . وبذلك يكون المسرح قد أصبح جاهزا لخلق الإنسان.

وقد تقبلت السموات والأرض القوانين المادية طائعتين " ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" 11/فصلت.

وأصبحت " الشمس والقمر بحسبان ،والنجم والشجر يسجدان ، والسماء رفعها ووضع الميزان : ألاّ تطغوا في الميزان " فلم تطغ لا السموات و لا الأرض في الميزان ، الذي هو هنا القوانين الإلهية بشقها المادي.

وجاء دور خلق الإنسان ، فالقوانين المادية من تراب إلى طين إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام إلى كساء العظام باللحم .. كلها جاهزة.. فليبدأ خلق الإنسان بـ " كن فيكون " ، " ثم أنشأناه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين " (14/ المؤمنون) منذ آدم إلى يوم القيامة.

- فأين القوانين الاجتماعية المكملة للمادية ؟

- إنك كمهندس ستحتاج إلى مخطط مادي للإسمنت والحديد والزجاج لإقامة مصنع مثلا .. ولكنك أيضا ستحتاج إلى قوانين اجتماعية تحدد العلاقات الاجتماعية الملائمة لأحسن مصنع وأحسن تشغيل للمصنع بإدارييه وعمّاله .. أليس كذلك !

- فهل وضع الله تعالى القوانين الاجتماعية لأحسن تصرف للإنسان قبل خلقه ؟

- بالضبط !

" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم :ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " 17/الأعراف .

وقال : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " 30 / الروم . صحيح البخاري 1359 . والفطرة هي مجموعة القوانين الإلهية المركوزة في جينات الإنسان . وفي حديث آخر: قال كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه صحيح الجامع الألباني 4559 وانتبه إلى " حتى يعرب عنه لسانه " .أي حتى يفصح عن إيمانه لسانه.

أي أن الرحمن قد وضع القوانين الاجتماعية للإنسان قبل خلقه ، ثم خلقه ، ثم علّمه الإعراب عن قبوله أو رفضه لتلك القوانين الاجتماعية ؟ " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" 72/ الأحزاب.

السموات والأرض أشفقن أن يحملن حرية التصرف بالقوانين الاجتماعية وآثرن البقاء على الخضوع التام للقوانين المادية ، ولكن الإنسان حمل القوانين الاجتماعية فكان أن أنتج من أجياله ظلوما كما أنتج جهولا . فالإنسان نصفٌ مسير وذلك بالقوانين المادية فقانون الجاذبية ينطبق عليه كما ينطبق على الحجر ، كما أن الإنسان نصفٌ مخير في الخضوع للقوانين الاجتماعية الإلهية .

ومن هنا قال الرحمن لمجموعة الإنسان وهم الناس : " وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " وهو هنا ميزان القوانين الاجتماعية.

فهذا هو الله رحمن قبل أن يخلق السموات والأرض ، وقبل أن يخلق الإنسان " قل لمن ما في السماوات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون "12/ الأنعام.

وقد علّم القرآن قبل أن يخلق الإنسان ، بأن وضع معالم القوانين الاجتماعية تحت عنوان " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " (9/ الإسراء).ثم بعد أن خلق الإنسان أنزل القرآن " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار ا" 82/ الإسراء.

فمن آمن بالقرآن وعمل به فقد انسجم مع القوانين الاجتماعية الإلهية ، وفاز بالعيش الدائم في ظلها يوم القيامة حيث لا ظل إلا ظل الله . " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " ( 124/ طه) والذكر هنا هو اتباع القوانين الاجتماعية الإلهية !

وما أغرب الظالمين بآيات الله ! من فيلق " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " 45/ المائدة ، عندما يرى القوانين المادية لا يجحدها ، إنما يحاول العمل ضمنها والاستفادة منها .. ترى من هو ذلك الأحمق الذي لا يؤمن بقانون الجاذبية !

ولكنك ستجد حمقى لا يؤمنون بالقوانين الاجتماعية الإلهية ، مثل :

يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" 11/الحجرات.

فإما يجحدونها وهؤلاء هم الكافرون ،

وإما يحاولون تنقيحها أو استبدالها لتوافق أهواءهم وهؤلاء هو المشركون ،

وإما يعلنون العمل بها ويخفون العمل ضدها وهؤلاء هم المنافقون .

يا إخوتي مالكم إذا أصاب عطل سيارتكم ذهبتم إلى المصلّح المختص بها ولم تذهبوا إلى المنجمين! وإذا أصاب عطل نفسي أو اجتماعي ذهبتم إلى " فرويد " ولم تذهبوا إلى خالقكم وخالق فرويد : الله ! " ألا يعلم من خلق ! وهو اللطيف الخبير " (14/ الملك). اسمحوا لي أن أحترم بعض المناهج الغربية التي تذكر فرويد ولكنها تذكر أن هذه آراؤه.. وهي غير علمية.. لأنها لم تبن على أسس تجريبية ! ولكن اسمحوا لي أن لا أحترم مناهج عربية تتخذ من فرويد مرجعية مقدسة !

ومن شاء مثالا على القوانين الاجتماعية الإلهية فتلك هي الزكاة " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم "60/التوبة. ولو فُعّلت الزكاة لأشبعت من على الأرض وجسّرت الفجوة بين الأغنياء والفقراء ومسحت أنانية الأغنياء وحقد الفقراء.

وتشمل القوانين الاجتماعية الإلهية كل مناحي الحياة حتى تقف حارسا أمينا على أبواب غرف النوم أو الراحة بمثل " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات : من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض ، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم" 58/النور

وهذا معنى " أشهد أن لا إله إلا الله " أي لا آخذ أنظمتي أو دساتيري أو تعليماتي لطريقة العيش إلا من الله رب العالمين . وسنعوض عن هذه المصطلحات بـ " الدين ". فيكون معنى " أشهد أن لا إله إلا الله " = لا آخذ ديني إلا من الله ! "ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار" 3/الزمر .

- فأين هذا هو الدين ؟

في القرآن! " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين" 2/الزمر

هذا القرآن الذي " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " 88/الإسراء ، لأنه " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم "6/النمل، وهذا القرآن الذي " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون " 27/الزمر

- فما الحاجة إلى " وأشهد أن محمدا رسول الله " ؟

- إنها سنته آخذها لتفصيل القرآن .. فإذا قال القرآن " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون"56/النور، جاءت السنة ، والمقصود بها طبعا الصحيحة ، لتبين كيفية إقامة الصلاة في "ارجعوا إلى أهليكم فكونوا فيهم ، و علموهم و مروهم ، و صلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، و ليؤمكم أكبركم" صحيح الجامع الألباني 893

ومقادير أنصبة الزكاة ، فقد كان كان خلقه القرآن " صحيح الجامعالألباني 4811

- ما فائدة الدين ؟

جلب المصالح + درء المفاسد في الحال أي الحياة الدنيا ، ثم في المآل أي في الآخرة " كل نفس ذائقه الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" 185/آل عمران

- أي دين ؟ القرآن يقول : " إن الدين عند الله الاسلام " 19/آل عمران

وعندما قال الفقهاء جزاهم الله تعالى خيرا إن الدين جاء لحفظ الضرورات الخمس : الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، فإنما كانوا يقصدون أن الهدف الأكبر للدين هو الربط بالله للإنسان كفرد وللناس كجماعة ، وينتج عن ذلك ثلاثة أهداف رئيسة : حفظ النفس ويتفرع عنها حفظ العقل ، وحفظ البيئة المادية ويتفرع عنها حفظ المال ، وحفظ البيئة الاجتماعية وأساسها الأسرة الناتجة عن زواج ( وليس عن سفاح).

خذوا أركان الإسلام في قوله " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " صحيح مسلم16 ، وفي قوله " بني الإسلام على خمس : على أن يعبد الله ويكفر بما دونه . وإقام الصلاة . وإيتاء الزكاة . وحج البيت . وصوم رمضان" صحيح مسلم 16 ، فسترون أن:

إقام الصلاة هي مثال على حفظ علاقة الإنسان والناس بالله إيتاء الزكاة هي مثال على حفظ المال صوم رمضان هو مثال على حفظ النفس ( من التخمة). حج البيت هو مثال على حفظ التواصل بين الناس.

إذن أي دين أو نظام رائع هذا الإسلام !: اهتم بنا اهتمام الرحمن الرحيم قبل خلق السموات والأرض ، واهتم بنا بعد خلقنا " يا بني آدم إما ياتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " 35/الأعراف " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" 24/ فاطر" رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما "165/ النساء.

ويهتم بنا لتوصيلنا إلى بر أمان الآخرة بعد موتنا ، فلا حياة بلا أمل ،ولا أمل بدون العمل للآخرة . فلي الحق كل الحق أن أفتخر بديني الإسلام ! ولك الحق كل الحق أن تفتخر بأنك مسلم ..لأنك ترى الخلق من بدايته إلى أبد الآبدين .. وترى أن خالقه الرحمن الرحيم .. العليم ..الحكيم .. أودع القوانين المادية فانسجم معها الخلق أجمعين .. وأودع القوانين الاجتماعية .. فكنت من خير أمة أخرجت للناس بانسجامكم مع القوانين الاجتماعية الإلهية .. محققين المعادلة الرابحة: خير أمة أخرجت للناس = تأمرون بالمعروف + تنهون عن المنكر + تؤمنون بالله .

وأما إذا وجدت اختلافا بين الإسلام وتطبيق المسلمين له ، فهذا شرخ أليم أدعو الله تعالى أن يعصمك منه : كن أنت الأحسن ! وكن أنت القرآن الذي يمشي على الأرض " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا "21/الأحزاب ، وقل لأولئك المسلمين: يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا " 136/النساءوقل "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " 2-3/ الصف.








خرجنا من المسجد بعد صلاة المغرب نتمشى ، فقال لي صديقي المهندس:

- في بداية سورة الرحمن " الرحمن ، علّم القرآن ، خلق الإنسان ، علّمه البيان " فكيف يعلم الله الرحمن القرآن للإنسان قبل خلقه !

- فقلت : أشرح الأمر كله ؟ أم من الشرح أختصر !

- فقال : كله ! حتى صلاة العشاء .. بعد ساعة وربع !

فكان حديثا هذا مداره:

بسم الله الرحمن الرحيم ..

القرآن الكريم الذي بين يدينا الآن على شكل كتاب صغير .. هو دستور القوانين أو السنن الإلهية منذ أن خلق الله السموات والأرض وما بينهما بالحق .

والقوانين الإلهية نوعان ولكنهما متكاملان :

* نوع القوانين المادية ، كقانون الجاذبية بين الأرض وما عليها ، وبين الأرض والشمس والقمر إلخ

* نوع القوانين النفسية و الاجتماعية كقانون " بالوالدين إحسانا" 23/ الإسراء

- كيف تتكامل القوانين المادية مع الاجتماعية؟

- إن أكل الطيبات المادية يجعلك سعيدا منشرحا فتحسن علاقاتك بأسرتك .. كما أن أكل الخبائث يدمر علاقتك الاجتماعية .. والمثال الصارخ على ذلك هو الخمر أم الخبائث ..

إذن ، عندما خلق الله السموات والأرض أودع فيهما القوانين أو السنن الإلهية التي ضرب لها الأمثال في القرآن ، أي علّم الله سننه المادية المذكورة في القرآن للسموات والأرض . وهذا يفسر إشارات القرآن للقوانين المادية كحدوث الليل للسبات والنهار للمعاش . وبذلك يكون المسرح قد أصبح جاهزا لخلق الإنسان.

وقد تقبلت السموات والأرض القوانين المادية طائعتين " ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين" 11/فصلت.

وأصبحت " الشمس والقمر بحسبان ،والنجم والشجر يسجدان ، والسماء رفعها ووضع الميزان : ألاّ تطغوا في الميزان " فلم تطغ لا السموات و لا الأرض في الميزان ، الذي هو هنا القوانين الإلهية بشقها المادي.

وجاء دور خلق الإنسان ، فالقوانين المادية من تراب إلى طين إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام إلى كساء العظام باللحم .. كلها جاهزة.. فليبدأ خلق الإنسان بـ " كن فيكون " ، " ثم أنشأناه خلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين " (14/ المؤمنون) منذ آدم إلى يوم القيامة.

- فأين القوانين الاجتماعية المكملة للمادية ؟

- إنك كمهندس ستحتاج إلى مخطط مادي للإسمنت والحديد والزجاج لإقامة مصنع مثلا .. ولكنك أيضا ستحتاج إلى قوانين اجتماعية تحدد العلاقات الاجتماعية الملائمة لأحسن مصنع وأحسن تشغيل للمصنع بإدارييه وعمّاله .. أليس كذلك !

- فهل وضع الله تعالى القوانين الاجتماعية لأحسن تصرف للإنسان قبل خلقه ؟

- بالضبط !

" وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم :ألست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " 17/الأعراف .

وقال : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " 30 / الروم . صحيح البخاري 1359 . والفطرة هي مجموعة القوانين الإلهية المركوزة في جينات الإنسان . وفي حديث آخر: قال كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه صحيح الجامع الألباني 4559 وانتبه إلى " حتى يعرب عنه لسانه " .أي حتى يفصح عن إيمانه لسانه.

أي أن الرحمن قد وضع القوانين الاجتماعية للإنسان قبل خلقه ، ثم خلقه ، ثم علّمه الإعراب عن قبوله أو رفضه لتلك القوانين الاجتماعية ؟ " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" 72/ الأحزاب.

السموات والأرض أشفقن أن يحملن حرية التصرف بالقوانين الاجتماعية وآثرن البقاء على الخضوع التام للقوانين المادية ، ولكن الإنسان حمل القوانين الاجتماعية فكان أن أنتج من أجياله ظلوما كما أنتج جهولا . فالإنسان نصفٌ مسير وذلك بالقوانين المادية فقانون الجاذبية ينطبق عليه كما ينطبق على الحجر ، كما أن الإنسان نصفٌ مخير في الخضوع للقوانين الاجتماعية الإلهية .

ومن هنا قال الرحمن لمجموعة الإنسان وهم الناس : " وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " وهو هنا ميزان القوانين الاجتماعية.

فهذا هو الله رحمن قبل أن يخلق السموات والأرض ، وقبل أن يخلق الإنسان " قل لمن ما في السماوات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون "12/ الأنعام.

وقد علّم القرآن قبل أن يخلق الإنسان ، بأن وضع معالم القوانين الاجتماعية تحت عنوان " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " (9/ الإسراء).ثم بعد أن خلق الإنسان أنزل القرآن " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار ا" 82/ الإسراء.

فمن آمن بالقرآن وعمل به فقد انسجم مع القوانين الاجتماعية الإلهية ، وفاز بالعيش الدائم في ظلها يوم القيامة حيث لا ظل إلا ظل الله . " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا " ( 124/ طه) والذكر هنا هو اتباع القوانين الاجتماعية الإلهية !

وما أغرب الظالمين بآيات الله ! من فيلق " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " 45/ المائدة ، عندما يرى القوانين المادية لا يجحدها ، إنما يحاول العمل ضمنها والاستفادة منها .. ترى من هو ذلك الأحمق الذي لا يؤمن بقانون الجاذبية !

ولكنك ستجد حمقى لا يؤمنون بالقوانين الاجتماعية الإلهية ، مثل :

يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" 11/الحجرات.

فإما يجحدونها وهؤلاء هم الكافرون ،

وإما يحاولون تنقيحها أو استبدالها لتوافق أهواءهم وهؤلاء هو المشركون ،

وإما يعلنون العمل بها ويخفون العمل ضدها وهؤلاء هم المنافقون .

يا إخوتي مالكم إذا أصاب عطل سيارتكم ذهبتم إلى المصلّح المختص بها ولم تذهبوا إلى المنجمين! وإذا أصاب عطل نفسي أو اجتماعي ذهبتم إلى " فرويد " ولم تذهبوا إلى خالقكم وخالق فرويد : الله ! " ألا يعلم من خلق ! وهو اللطيف الخبير " (14/ الملك). اسمحوا لي أن أحترم بعض المناهج الغربية التي تذكر فرويد ولكنها تذكر أن هذه آراؤه.. وهي غير علمية.. لأنها لم تبن على أسس تجريبية ! ولكن اسمحوا لي أن لا أحترم مناهج عربية تتخذ من فرويد مرجعية مقدسة !

ومن شاء مثالا على القوانين الاجتماعية الإلهية فتلك هي الزكاة " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم "60/التوبة. ولو فُعّلت الزكاة لأشبعت من على الأرض وجسّرت الفجوة بين الأغنياء والفقراء ومسحت أنانية الأغنياء وحقد الفقراء.

وتشمل القوانين الاجتماعية الإلهية كل مناحي الحياة حتى تقف حارسا أمينا على أبواب غرف النوم أو الراحة بمثل " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات : من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض ، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم" 58/النور

وهذا معنى " أشهد أن لا إله إلا الله " أي لا آخذ أنظمتي أو دساتيري أو تعليماتي لطريقة العيش إلا من الله رب العالمين . وسنعوض عن هذه المصطلحات بـ " الدين ". فيكون معنى " أشهد أن لا إله إلا الله " = لا آخذ ديني إلا من الله ! "ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار" 3/الزمر .

- فأين هذا هو الدين ؟

في القرآن! " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين" 2/الزمر

هذا القرآن الذي " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " 88/الإسراء ، لأنه " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم "6/النمل، وهذا القرآن الذي " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون " 27/الزمر

- فما الحاجة إلى " وأشهد أن محمدا رسول الله " ؟

- إنها سنته آخذها لتفصيل القرآن .. فإذا قال القرآن " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون"56/النور، جاءت السنة ، والمقصود بها طبعا الصحيحة ، لتبين كيفية إقامة الصلاة في "ارجعوا إلى أهليكم فكونوا فيهم ، و علموهم و مروهم ، و صلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، و ليؤمكم أكبركم" صحيح الجامع الألباني 893

ومقادير أنصبة الزكاة ، فقد كان كان خلقه القرآن " صحيح الجامعالألباني 4811

- ما فائدة الدين ؟

جلب المصالح + درء المفاسد في الحال أي الحياة الدنيا ، ثم في المآل أي في الآخرة " كل نفس ذائقه الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" 185/آل عمران

- أي دين ؟ القرآن يقول : " إن الدين عند الله الاسلام " 19/آل عمران

وعندما قال الفقهاء جزاهم الله تعالى خيرا إن الدين جاء لحفظ الضرورات الخمس : الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، فإنما كانوا يقصدون أن الهدف الأكبر للدين هو الربط بالله للإنسان كفرد وللناس كجماعة ، وينتج عن ذلك ثلاثة أهداف رئيسة : حفظ النفس ويتفرع عنها حفظ العقل ، وحفظ البيئة المادية ويتفرع عنها حفظ المال ، وحفظ البيئة الاجتماعية وأساسها الأسرة الناتجة عن زواج ( وليس عن سفاح).

خذوا أركان الإسلام في قوله " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " صحيح مسلم16 ، وفي قوله " بني الإسلام على خمس : على أن يعبد الله ويكفر بما دونه . وإقام الصلاة . وإيتاء الزكاة . وحج البيت . وصوم رمضان" صحيح مسلم 16 ، فسترون أن:

إقام الصلاة هي مثال على حفظ علاقة الإنسان والناس بالله إيتاء الزكاة هي مثال على حفظ المال صوم رمضان هو مثال على حفظ النفس ( من التخمة). حج البيت هو مثال على حفظ التواصل بين الناس.

إذن أي دين أو نظام رائع هذا الإسلام !: اهتم بنا اهتمام الرحمن الرحيم قبل خلق السموات والأرض ، واهتم بنا بعد خلقنا " يا بني آدم إما ياتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " 35/الأعراف " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" 24/ فاطر" رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما "165/ النساء.

ويهتم بنا لتوصيلنا إلى بر أمان الآخرة بعد موتنا ، فلا حياة بلا أمل ،ولا أمل بدون العمل للآخرة . فلي الحق كل الحق أن أفتخر بديني الإسلام ! ولك الحق كل الحق أن تفتخر بأنك مسلم ..لأنك ترى الخلق من بدايته إلى أبد الآبدين .. وترى أن خالقه الرحمن الرحيم .. العليم ..الحكيم .. أودع القوانين المادية فانسجم معها الخلق أجمعين .. وأودع القوانين الاجتماعية .. فكنت من خير أمة أخرجت للناس بانسجامكم مع القوانين الاجتماعية الإلهية .. محققين المعادلة الرابحة: خير أمة أخرجت للناس = تأمرون بالمعروف + تنهون عن المنكر + تؤمنون بالله .

وأما إذا وجدت اختلافا بين الإسلام وتطبيق المسلمين له ، فهذا شرخ أليم أدعو الله تعالى أن يعصمك منه : كن أنت الأحسن ! وكن أنت القرآن الذي يمشي على الأرض " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا "21/الأحزاب ، وقل لأولئك المسلمين: يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا " 136/النساءوقل "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " 2-3/ الصف.

الحمد لله على نعمه الاسلام
جزاكى الله كل خير